وقد يقول قائل: إن هذا التكفير خاص بالصغائر، ويستدل لذلك بما قررناه سابقاً في حديث: (
الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر )، فيقول: نحمل المطلق على المقيد، فنقول: إن هذه الأحاديث في فضل المصائب وتكفيرها للذنوب محمولة على حديث: (
ما اجتنبت الكبائر )، وعليه فلا تكون المصائب مكفرة إلا للصغائر.والجواب عن ذلك: أنه لا يحمل المطلق على المقيد -ولا سيما في مثل هذا الموضع- لأن سبب التكفير مختلف، فالتكفير في حديث: (
ما اجتنبت الكبائر ) واقع بفعل الحسنات، وموضوع التكفير بفعل الحسنات شيء، وموضوع التكفير بوقوع المصائب شيء آخر، فليس السبب واحداً، ولا بد في حمل المطلق على المقيد من اتحاد السبب والحكم حتى نحمل هذا على هذا، فالمصائب شيء غير الطاعات. ومما يقوي هذا أننا نقول لهم: أوليس الذي يرتكب الكبيرة يعاقب شرعاً؟! فهناك عقوبات شرعية قدرها الشرع، وأخرى لم يقدرها لكن دل على أصلها، أعني الحدود والتعازير، فلو أن إنساناً اختلس مالاً أو نهبه أو غش أو خلا بامرأة؛ فإنه يقرع ويعنف ويعاقب، وإن كان ما أتاه حداً فالحدود تقام كما شرع الله وكما أمر، وهي عقوبة يألم بها، وبهذا الألم تكفر عنه الخطيئة، كما بين النبي صلى الله عليه وسلم أن من عوقب في الدنيا ومن أقيم عليه الحد فهو كفارة له. فـ
إذا كانت العقوبة قدرية لأنه زنى أو سرق، ولم يعاقبه الله تعالى بأيدينا، وإنما بمصيبة نزلت عليه -نسأل الله العفو والعافية من الذنوب ومن المصائب- فألم به مرض أو امتحن، كرجل زنى -عياذاً بالله- ولم تقم عليه العقوبة، لكن الله تعالى ابتلاه على ذلك وعاقبه بمرض من الأمراض الخبيثة التي تصيب الأعضاء التناسلية، فحصلت العقوبة بشكل آخر؛ فما المانع أن تكون كفارة لذلك الذنب؟! إن اللائق بحكمة الله وعدله وفضله ورحمته أن تكون هذه المصيبة مكفرة لما قد اقترف، وهذا هو الراجح، ولا سيما -كما قلنا- أن السبب مختلف، فلا يصح حمل تكفير الكبائر بالمصائب على حديث: (
ما اجتنبت الكبائر ). وهنا شيء آخر، وهو قوله تعالى: ((
إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا ))[النساء:31]، فهذا موضوع آخر، وهو دليل على أن من اجتنب الكبائر غفر الله له الصغائر وكفرها عنه، لكننا هنا نتكلم عن سبب من فعل العبد، وهو أن يفعل الحسنات، أو أن يصاب بمصيبة فيصبر. فالمقصود هنا
التكفير بسبب، سواء كان من عند الله سبحانه بمصيبة وقعت على العبد، أم كان من فعل العبد، ولفعل العبد علاقة به. أما أن يكفر الله تعالى عنه لمجرد أنه اجتنب الكبائر فذلك واضح إن شاء الله، فترك الكبائر في ذاته خير كبير، ويبشر صاحبه بأن تكفر عنه الصغائر.